سورة النساء - تفسير تفسير الزمخشري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)}
وكان الرجل إذا طمحت عينه إلى استطراف امرأة؟ بهت التي تحته ورماها بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوّج غيرها. فقيل: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ} الآية. والقنطار: المال العظيم، من قنطرت الشيء إذا رفعته، ومنه القنطرة، لأنها بناء مشيد. قال:
كَقَنْطَرَةِ الرُّومِيِّ أَقْسَمَ رَبُّهَا *** لَتُكْتَنَفَنْ حَتَّى تُشَادَ بِقِرْمِدِ
وعن عمر رضي الله عنه أنه قام خطيباً فقال: أيها الناس، لا تغالوا بصُدُق النساء، فلو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أصدق امرأة من نسائه أكثر من اثني عشر أوقية، فقامت إليه امرأة فقالت له: يا أمير المؤمنين، لِمَ تمنعنا حقاً جعله الله لنا والله يقول: {وَءَاتَيْتُمْ إحداهن قِنطَاراً} فقال عمر: كل أحد أعلم من عمر ثم قال لأصحابه: تسمعونني أقول مثل هذا القول فلا تنكرونه عليّ حتى تردّ عليّ امرأة ليست من أعلم النساء والبهتان: أن تستقبل الرجل بأمر قبيح تقذفه به وهو بريء منه، لأنه يبهت عند ذلك، أي يتحير. وانتصب {بهتانا} على الحال، أي باهتين وآثمين، أو على أنه مفعول له وإن لم يكن غرضاً، كقولك: قعد عند القتال جبناً. والميثاق الغليظ: حق الصحبة والمضاجعة، كأنه قيل: وأخذن به منكم ميثاقاً غليظاً، أي بإفضاء بعضكم إلى بعض. ووصفه بالغلظ لقوّته وعظمه، فقد قالوا: صحبة عشرين يوماً قرابة، فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟ وقيل: هو قول الوليّ عند العقد: أنكحتك على ما في كتاب الله من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان في أيديكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله».


{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)}
وكانوا ينكحون روابهم، وناس منهم يمقتونه من ذي مروآتهم، ويسمونه نكاح المقت. وكان المولود عليه يقال له المقتي. ومن ثم قيل: {وَمَقْتاً} كأنه قيل: هو فاحشة في دين الله بالغة في القبح، قبيح ممقوت في المروءة ولا مزيد على ما يجمع القبحين. وقرئ: {لا تحل لكم} بالتاء، على أن ترثوا بمعنى الوراثة. وكرها بالفتح، والضم من الكراهة والإكراه. وقرئ {بفاحشة مُّبَيّنَةٍ} [النساء: 19] من أبانت بمعنى تبينت أو بينت، كما قرئ {مبيّنة} بكسر الياء وفتحها. و{يَجْعَلُ الله} بالرفع، على أنه في موضع الحال: {وَءَاتَيْتُمْ إحداهن} بوصل همزة إحداهن. كما قرئ {فلا إثم عليه} [البقرة: 173].
فإن قلت: تعضلوهن، ما وجه إعرابه؟ قلت: النصب عطفاً على أن ترثوا. و(لا) لتأكيد النفي. أي لا يحل لكم أن ترثوا النساء ولا أن تعضلوهن.
فإن قلت: أي فرق بين تعدية ذهب بالباء، وبينها بالهمزة؟ قلت: إذا عدي بالباء فمعناه الأخذ والاستصحاب، كقوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ} [يوسف: 15] وأما الإذهاب فكالإزالة.
فإن قلت: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ} [النساء: 19] ما هذا الاستثناء؟ قلت: هو استثناء من أعم عام الظرف أو المفعول له، كأنه قيل: ولا تعضلوهن في جميع الأوقات إلا وقت أن يأتين بفاحشة. أو: ولا تعضلوهنّ لعلة من العلل إلا لأن يأتين بفاحشة.
فإن قلت: من أي وجه صح قوله: {فعسى أَن تَكْرَهُواْ} جزاء للشرط؟ قلت: من حيث أنّ المعنى: فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن مع الكراهة، فلعل لكم فيما تكرهونه خيراً كثيراً ليس فيما تحبونه فإن قلت كيف استثنى ما قد سلف مما نكح آباؤكم؟ قلت: كما استثنى (غير أن سيوفهم) من قوله: (ولا عيب فيهم) يعني: إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف، فانكحوه، فلا يحل لكم غيره. وذلك غير ممكن. والغرض المبالغة في تحريمه وسدّ الطريق إلى إباحته، كما يعلق بالمحال في التأبيد نحو قولهم: حتى يبيض القار، وحتى يلج الجمل في سم الخياط.
معنى {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} تحريم نكاحهن لقوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء} [النساء: 22] ولأن تحريم نكاحهن هو الذي يفهم من تحريمهن، كما يفهم من تحريم الخمر تحريم شربها، ومن تحريم لحم الخنزير تحريم أكله. وقرئ {وبنات الأخت} بتخفيف الهمزة. وقد نزّل الله الرضاعة منزلة النسب، حتى سمى المرضعة أمًّا للرضيع، والمراضعة أختاً، وكذلك زوج المرضعة أبوه وأبواه جداه، وأخته عمته، وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده فهم إخوته وأخواته لأبيه. وأم المرضعة جدّته، وأختها خالته، وكل من ولد لها من هذا الزوج فهم إخوته وأخواته لأبيه وأمه، ومن ولد لها من غيره فهم إخوته وأخواته لأمه.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» وقالوا: تحريم الرضاع كتحريم النسب إلا في مسألتين: إحداهما أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج أخت ابنه من النسب ويجوز أن يتزوّج أخت ابنه من الرضاع، لأن المانع في النسب وطؤه أمها. وهذا المعنى غير موجود في الرضاع. والثانية: لا يجوز أن يتزوج أم أخيه من النسب، ويجوز في الرضاع، لأن المانع في النسب وطء الأب إياها، وهذا المعنى غير موجود في الرضاع {مّن نِّسَائِكُمُ} متعلق بربائبكم. ومعناه أن الربيبة من المرأة المدخول بها محرمة على الرجل حلال له إذا لم يدخل بها.
فإن قلت: هل يصح أن يتعلق بقوله: {وأمهات نِسَائِكُمْ}؟ قلت: لا يخلو إمّا أن يتعلق بهن وبالربائب، فتكون حرمتهن وحرمة الربائب غير مبهمتين جميعاً، وإما أن يتعلق بهن بدون الربائب فتكون حرمتهن غير مبهمة وحرمة الربائب مبهمة فلا يجوز الأوّل، لأن معنى (من) مع أحد المتعلقين، خلاف معناه مع الآخر. ألا تراك أنك إذا قلت: وأمّهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ فقد جعلت (من) لبيان النساء. وتمييز المدخول بهنّ من غير المدخول بهنّ. وإذا قلت وربائبكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ فإنك جاعل (من) لابتداء الغاية، كما تقول: بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة، وليس بصحيح أن يعني بالكلمة الواحدة في خطاب واحد معنيان مختلفان. ولا يجوز الثاني لأن ما يليه هو الذي يستوجب التعليق به، ما لم يعترض أمر لا يرد، إلا أن تقول: أعلقه بالنساء والربائب، وأجعل (من) للاتصال، كقوله تعالى: {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ} [التوبة: 67] فإني لست منك ولست مني. ما أنا من دد ولا الدد مني: وأمهات النساء متصلات بالنساء لأنهنّ أمهاتهنّ كما أن: الربائب متصلات بأمهاتهن لأنهنّ بناتهنّ. هذا وقد اتفقوا على أن تحريم أمهات النساء مبهم دون تحريم الربائب، على ما عليه ظاهر كلام الله تعالى.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في رجل تزوج امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها أنه قال: «لا بأس أن يتزوج ابنتها، ولا يحل له أن يتزوج أمها»، وعن عمر وعمران بن الحصين رضي الله عنهما: أن الأم تحرم بنفس العقد، وعن مسروق: هي مرسلة فأرسلوا ما أرسل الله.
وعن ابن عباس: أبهموا ما أبهم الله، إلا ما روي عن علي وابن عباس وزيد وابن عمر وابن الزبير: أنهم قرءوا: {وأمّهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن}. وكان ابن عباس يقول: والله ما نزل إلا هكذا.
وعن جابر روايتان.
وعن سعيد بن المسيب عن زيد: إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها، كره أن يخلف على أمّها.
وإذا طلقها قبل أن يدخل بها فإن شاء فعل: أقام الموت مقام الدخول في ذلك، كما قام مقامه في باب المهر. وسمى ولد المرأة من غير زوجها ربيباً وربيبة، لأنه يربهما كما يرب ولده في غالب الأمر، ثم اتسع فيه فسميا بذلك وإن لم يربهما.
فإن قلت: ما فائدة قوله في حجوركم؟ قلت: فائدته التعليل للتحريم، وأنهن لاحتضانكم لهن أو لكونهن بصدد احتضانكم، وفي حكم التقلب في حجوركم إذا دخلتم بأمّهاتهن، وتمكن بدخولكم حكم الزواج وثبتت الخلطة والألفة، وجعل الله بينكم المودة والرحمة، وكانت الحال خليقة بأن تجروا أولادهن مجرى أولادكم، كأنكم في العقد على بناتهن عاقدون على بناتكم.
وعن علي رضي الله عنه: أنه شرط ذلك في التحريم. وبه أخذ داود.
فإن قلت: ما معنى {دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}؟ قلت: هي كناية عن الجماع، كقولهم: بنى عليها وضرب عليها الحجاب يعني أدخلتموهن الستر. والباء للتعدية واللمس. ونحوه؛ يقوم مقام الدخول عند أبي حنيفة.
وعن عمر رضي الله عنه أنه خلا بجارية فجردها، فاستوهبها ابن له فقال: إنها لا تحلّ لك.
وعن مسروق أنه أمر أن تباع جاريته بعد موته وقال: أما إني لم أصب منها إلا ما يحرمها على ولدي من اللمس والنظر.
وعن الحسن في الرجل يملك الأمة فيغمزها لشهوة أو يقبلها أو يكشفها: أنها لا تحل لولده بحال وعن عطاء وحماد بن أبي سليمان: إذا دخل بالأم فعرّاها ولمسها بيده وأغلق الباب وأرخى الستر، فلا يحلّ له نكاح ابنتها.
وعن ابن عباس وطاوس وعمرو بن دينار: أن التحريم لا يقع إلا بالجماع وحده {الذين مِنْ أصلابكم} دون من تبنيتم.
وقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش الأسدية بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب حين فارقها زيد بن حارثة، وقال عزّ وجلّ: {لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37]. {وَأَن تَجْمَعُواْ} في موضع الرفع عطف على المحرمات، أي وحرّم عليكم الجمع بين الأختين. والمراد حرمة النكاح، لأنّ التحريم في الآية تحريم النكاح وأما الجمع بينهما في ملك اليمين، فعن عثمان وعلي رضي الله عنهما أنهما قالا: أحلتهما آية وحرّمتهما آية يعنيان هذه الآية وقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم} [النساء: 3] فرجح عليُّ التحريم، وعثمانُ التحليل. {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} ولكن ما مضى مغفور بدليل قوله: {إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً}.


{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)}
{والمحصنات} القراءة بفتح الصاد.
وعن طلحة بن مصرف أنه قرأ بكسر الصاد. وهنّ ذوات الأزواج. لأنهنّ أحصنّ فروجهنّ بالتزويج. فهنّ محصنات ومحصنات {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} يريد: ما ملكت أيمانهم من اللاتي سبين ولهنّ أزواج في دار الكفر فهنّ حلال لغزاة المسلمين وإن كنّ محصنات. وفي معناه قول الفرزدق:
وَذَاتُ حَلِيلٍ أَنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا *** حَلاَلٌ لِمَنْ يَبْنِي بِهَا لَمْ تُطَلَّقِ
{كتاب الله عَلَيْكُمْ} مصدر مؤكد، أي كتب الله ذلك عليكم كتاباً وفرضه فرضاً، وهو تحريم ما حرّم.
فإن قلت: علام عطف قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ}؟ قلت: على الفعل المضمر الذي نصب {كتاب الله} أي كتب الله عليكم تحريم ذلك، وأحلّ لكم ما وراء ذلكم. ويدل عليه قراءة اليماني: {كتب الله عليكم}، {وأحلّ لكم}. وروى عن اليماني: كتب الله عليكم، على الجمع والرفع أي هذه فرائض الله عليكم. ومن قرأ: {وأحلّ لكم}، على البناء للمفعول، فقد عطفه على حرمت. {أَن تَبْتَغُواْ} مفعول له بمعنى بين لكم ما يحلّ مما يحرم، إرادة أن يكون ابتغاؤكم {بأموالكم} التي جعل الله لكم قياماً في حال كونكم {مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مسافحين} لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم فتخسروا دنياكم ودينكم، ولا مفسدة أعظم مما يجمع بين الخسرانين. والإحصان: العفة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام، والأموال: المهور وما يخرج في المناكح.
فإن قلت: أين مفعول تبتغوا؟ قلت: يجوز أن يكون مقدّراً وهو النساء. والأجود أن لا يقدر، وكأنه قيل: أن تخرجوا أموالكم. ويجوز أن يكون {أن تبتغوا} بدلاً من {وراء ذلك} والمسافح الزاني، من السفح وهو صبّ المنيّ. وكان الفاجر يقول للفاجرة: سافحيني وماذيني من المذي {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ} فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو خلوة صحيحة أو عقد عليهنّ {فآتوهن أجورهن} عليه، فأسقط الراجع إلى (ما) لأنه لا يلبس، كقوله: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} [لقمان: 17] بإسقاط منه. ويجوز أن تكون (ما) في معنى النساء، و(من) للتبعيض أو البيان، ويرجع الضمير إليه على اللفظ في به، وعلى المعنى في {فَئَاتُوهُنَّ} وأجورهن مهورهن لأن المهر ثواب على البضع {فَرِيضَةً} حال من الأجور بمعنى مفروضة أو وضعت موضع إيتاء لأن الإيتاء مفروض أو مصدر مؤكد. أي فرض ذلك فريضة {فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة} فيما تحط عنه من المهر، أو تهب له من كله أو يزيد لها على مقداره.
وقيل فيما تراضيا به من مقام أو فراق وقيل: نزلت في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتح الله مكة على رسوله عليه الصلاة والسلام ثم نسخت، كان الرجل ينكح المرأة وقتاً معلوماً ليلة أو ليلتين أو أسبوعاً بثوب أو غير ذلك، ويقضي منها وطره ثم يسرحها.
سميت متعة لاستمتاعه بها أو لتمتيعه لها بما يعطيها.
وعن عمر: لا أوتى برجل تزوّج امرأة إلى أجل إلا رجمتهما بالحجارة.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أباحها، ثم أصبح يقول: «يا أيها الناس إني كنت أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء: ألا إن الله حرّم ذلك إلى يوم القيامة»، وقيل: أبيح مرتين وحرّم مرتين.
وعن ابن عباس هي محكمة يعني لم تنسخ، وكان يقرأ: {فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمى}. ويروى أنه رجع عن ذلك عند موته وقال: اللَّهم إني أتوب إليك من قولي بالمتعة، وقولي في الصرف.
الطول: الفضل، يقال: لفلان على فلان طول أي زيادة وفضل. وقد طاله طولاً فهو طائل. قال:
لَقَدْ زَادَنِي حُبًّا لِنَفْسِي أَنَّنِي *** بَغِيضٌ إِلَى كُلِّ امرئ غَيْرِ طَائِلِ
ومنه قولهم: ما حلا منه بطائل، أي بشيء يعتدّ به مما له فضل وخطر. ومنه الطول في الجسم لأنه زيادة فيه، كما أن القصر قصور فيه ونقصان. والمعنى: ومن لم يستطع زيادة في المال وسعة يبلغ بها نكاح الحرّة فلينكح أَمَةً. قال ابن عباس: من ملك ثلاثمائة درهم فقد وجب عليه الحج وحرم عليه نكاح الإماء وهو الظاهر، وعليه مذهب الشافعي رحمه الله. وأمّا أبو حنيفة رحمه الله فيقول: الغنيّ والفقير سواء في جواز نكاح الأمة، ويفسر الآية بأن من لم يملك فراش الحرّة، على أن النكاح هو الوطء، فله أن ينكح أمة. وفي رواية عن ابن عباس أنه قال: ومما وسع الله على هذه الأمة نكاح الأمة واليهودية والنصرانية وإن كان موسراً. وكذلك قوله: {مِّن فتياتكم المؤمنات} الظاهر أن لا يجوز نكاح الأمة الكتابية، وهو مذهب أهل الحجاز. وعند أهل العراق يجوز نكاحها، ونكاح الأمة المؤمنة أفضل، فحملوه على الفضل لا على الوجوب، واستشهدوا على أن الإيمان ليس بشرط بوصف الحرائر به، مع علمنا أنه ليس بشرط فيهن على الاتفاق، ولكنه أفضل.
فإن قلت: لم كان نكاح الأمة منحطاً عن نكاح الحرة؟ قلت: لما فيه من اتباع الولد الأم في الرق، ولثبوت حق المولى فيها وفي استخدامها، ولأنها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة وذلك كله نقصان راجع إلى الناكح ومهانة، والعزة من صفات المؤمنين. وقوله: {مّن فتياتكم} أي من فتيات المسلمين، لا من فتيات غيركم وهم المخالفون في الدين.
فإن قلت: فما معنى قوله: {والله أَعْلَمُ بإيمانكم}؟ قلت: معناه أن الله أعلم بتفاضل ما بينكم وبين أرقائكم في الإيمان ورجحانه ونقصانه فيهم وفيكم، وربما كان إيمان الأمة أرجح من إيمان الحرة، والمرأة أفضل في الإيمان من الرجل وحق المؤمنين أن لا يعتبروا إلا فضل الإيمان لا فضل الأحساب والأنساب، وهذا تأنيس بنكاح الإماء وترك الاستنكاف منه {بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ} أي أنتم وأرقاؤكم متواصلون متناسبون لاشتراككم في الإيمان، لا يفضل حر عبداً إلا برجحان فيه {بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} اشتراط لإذن الموالي في نكاحهن.
ويحتج به لقول أبي حنيفة أن لهن أن يباشرن العقد بأنفسهن، لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم. {وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ب المعروف} وأدّوا إليهن مهورهن بغير مطل وضرار وإحواج إلى الاقتضاء واللز.
فإن قلت: الموالي هم ملاك مهورهن لا هن، والواجب أداؤها إليهم لا إليهن، فلم قيل: وآتوهن؟ قلت: لأنهن وما في أيديهن مال الموالي، فكان أداؤها إليهن أداء إلى الموالي. أو على أن أصله: فآتوا مواليهن، فحذف المضاف {المحصنات} عفائف. والأخدان: الأخلاء في السرّ، كأنه قيل: غير مجاهرات بالسفاح ولا مسرات له {فَإِذَا أُحْصِنَّ} بالتزويج. وقرئ: {أحصن} {نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات} أي الحرائر {مّنَ العذاب} من الحدّ كقوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا} [النور: 2] {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب} [النور: 8] ولا رجم عليهن، لأن الرجم لا يتنصف {ذلك} إشارة إلى نكاح الإماء {لِمَنْ خَشِىَ العنت} لمن خاف الإثم الذي يؤدي إليه غلبة الشهوة. وأصل العنت: انكسار العظم بعد الجبر، فاستعير لكل مشقة وضرر، ولا ضرر أعظم من مواقعة المآثم. وقيل: أريد به الحدّ، لأنه إذا هويها خشي أن يواقعها فيحدّ فيتزوجها {وَأَن تَصْبِرُواْ} في محل الرفع على الابتداء، أي وصبركم عن نكاح الإماء متعففين {خَيْرٌ لَّكُمْ} وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «الحرائر صلاح البيت، والإماء هلاك البيت».

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9